الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأخرج ابن أبي حاتم عن على قال: إذا نمت النطفة أربعة أشهر بعث إليها ملك فنفح فيها الروح في الظلمات الثلاث، فذلك قوله: {ثم أنشأناه خلقًا آخر} يعني نفخ الروح فيه.وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {ثم أنشأناه خلقًا آخر} يقول: خرج من بطن أمه بعد ما خلق فكان من بدء خلقه الآخر أن استهل، ثم كان من خلقه أن دله على ثدي أمه، ثم كان من خلقه أن علم كيف يبسط رجليه إلى أن قعد، إلى أن حبا، إلى أن قام على رجليه، إلى أن مشى، إلى أن فطم، تعلم كيف يشرب ويأكل من الطعام، إلى أن بلغ الحلم، إلى أن بلغ أن يتقلب في البلاد.وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة {ثم أنشأناه خلقًا آخر} قال: يقول بعضهم هو نبات الشعر، وبعضهم يقول: هو نفخ الروح.وأخرج ابن جرير عن مجاهد {فتبارك الله أحسن الخالقين} قال: يصنعون، ويصنع الله والله خير الصانعين.وأخرج ابن جرير عن ابن جريج {فتبارك الله أحسن الخالقين} قال: عيسى ابن مريم يخلق.وأخرج الطيالسي وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أنس قال: قال عمر: وافقت ربي في أربع. قلت: يا رسول الله لو صليت خلف المقام. فأنزل الله {واتخذوا من مقام إبراهيم مُصَلَّى}. [البقرة: 125] وقلت: يا رسول الله لو اتخذت على نسائك حجابًا فإنه يدخل عليك البر والفاجر. فأنزل الله {وإذا سألتموهن متاعًا فاسألوهن من وراء حجاب} [الأحزاب: 53] وقلت لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: لتنتهن أو ليبدلنه الله أزواجًا خيرًا منكن. فأنزلت {عسى ربه إن طلقكن} [التحريم: 5]. ونزلت {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين}. إلى قوله: {ثم أنشأناه خلقًا آخر} فقلت أنا: فتبارك الله أحسن الخالقين فنزلت {فتبارك الله أحسن الخالقين}.وأخرج ابن راهويه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه عن زيد بن ثابت قال: أملى على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} إلى قوله: {خلقًا آخر} فقال معاذ بن جبل فتبارك الله أحسن الخالقين، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له معاذ: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: «إنها ختمت {فتبارك الله أحسن الخالقين}». اهـ.
وقال أمية بن أبي الصلت: وقال الزمخشري: السُّلالَةُ: الخُلاصة لأنَّها تُسَلُّ من بين الكَدَر. وهذه الجملةُ جوابُ قسمٍ محذوف. أي: والله لقد خَلَقْنا. وعُطِفَت على الجملةِ قبلَها لِما بينهما من المناسبةِ؛ وهو أنَّه تعالى لمَّا ذَكر أنَّ المُتَّصِفين بتلك الأوصافِ يَرِثون الفردوسَ، فتضَمَّنَ ذِكْرَ المعادِ الأُخْروي، ذَكَرَ النشأةَ الأولى ليستدِلَّ بها على المَعَادِ، فإن الابتداء في العادة أصعبُ من الإِعادةِ كقوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]. وهذا أحسنُ مِنْ قولِ ابن عطية: هذا ابتداءُ كلامٍ، والواو في أولِه عاطفةٌ جملةَ كلامٍ على جملةِ كلامٍ، وإنْ تبايَنَتا في المعنى لأنِّي قَدَّمْتُ لك وَجْهَ المناسبة.قوله: {مِّن طِينٍ} في مِنْ وجهان، أحدهما: أنها لابتداءِ الغايةِ. والثاني: أنها لبيانِ الجنسِ. قال الزمخشري: فإنْ قلتَ: ما الفرقُ بين مِنْ و مِنْ؟ قلت الأُوْلى للابتداءِ، والثانيةٌ للبيانِ كقولِه: {مِنَ الأوثان}. قال الشيخ: ولا تكونُ للبيان؛ إلاَّ إذا قلنا: إنَّ السُّلالةَ هي الطينُ. أمَّا إذا قُلْنا: إنه مِنْ أُنْسِل من الطين ف مِنْ لابتداءِ الغاية.وفيما تتعلَّق به مِنْ هذه أوجهٌ، أحدُها: أنَّها تتعلَّقُ بمحذوفٍ إذ هي صفةٌ ل سُلالة. الثاني: أنَّها تتعلَّقُ بنفس سُلالة؛ لأنها بمعنى مَسْلولة. الثالث: أنها تتعلَّقُ ب خَلَقْنا لأنها بدلٌ مِن الأولى، إذا قلنا: إن السُّلالةَ هي نفسُ الطين.{ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)}.قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً}: في هذا الضميرِ قولان، أحدهما: أنه يعودُ للإِنسانِ. فإنْ أُريد غيرُ آدمَ فواضحٌ، ويكون خَلْقُه مِنْ سُلالةِ الطينِ خَلْقَ أصلِه وهو آدمُ، فيكونُ على حَذْفِ مضافٍ. وإن كان المرادُ به آدمَ فيكونُ الضميرُ عائدًا على نَسْلِه أي: جَعَلْنا نَسْلَه فهو على حَذْفِ مضافٍ أيضًا. أو عاد الضميرُ على الإِنسانِ اللائقِ به ذلك، وهو نَسْلُ آدمَ، فلفظُ الإِنسانِ من حيث هو صالحٌ للأصلِ والفرعِ، ويعود كلُّ شيءٍ لِما يليقُ به. وإليه نحا الزمخشري.قوله: {فِي قَرَارٍ} يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بالجَعْل، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل {نُطْفَة}. والقَرار: المستقَرُّ وهو مَوْضِعُ الاستقرارِ. والمرادُ بها الرَّحِمُ. ووُصِفَتْ ب {مَكِيْن} لمكانةِ التي هي صفةٌ المُسْتَقِرِّ فيها، لأحدِ معنيين: أمَّا على المجازِ كطريقٍ سائر، وإنما السائرُ مَنْ فيه، وإمَّا لمكانتِها في نفسِها لأنها تمكَّنَتْ بحيث هي وأُحْرِزَتْ.قوله: {ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً}: وما بعدها. ضَمَّنَ خَلَق معنى جَعَلَ التصييريةِ فتعَدَّت لاثنين كما تَضَمَّنَ جَعَلَ معنى خَلَق فيتعدَّى لواحدٍ نحوَ: {وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1].قوله: {عِظَامًا} قرأ العامَّةُ: {عِظامًا} و{العظام} بالجمع فيهما. وابن عامر وأبو بكر عن عاصم {عَظْمًا} و{العظم} بالإِفراد فيهما. والسُّلمي والأعرج والأعمش بإفرادِ الأول وجَمْعِ الثاني. وأبو رجاء ومجاهد وإبراهيم ابن أبي بكر بجمع الأولِ وإفرادِ الثاني عكسَ ما قبله. فالجمعُ على الأصل لأنه مطابِقٌ لِما يُراد به، والإِفرادُ للجنسِ كقولِه: {وَهَنَ العظم مِنِّي} [مريم: 4]. وقال الزمخشري: وَضَعَ الواحدَ موضع الجمعِ لزوالِ اللَّبْسِ لأنَّ الإِنسانَ ذو عِظامٍ كثيرة. قال الشيخ: هذا عند سيبويه وأصحابِه لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةٍ وأنشدوا: وإن كان مَعْلومًا أنَّ كلَّ واحدٍ له بطنٌ. قلت: ومثله: يريد: في حُلوقكم. ومثلُه قولُ الآخر: يريد: جلودُها، ومنه {وعلى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] وقد تقدَّم طَرَفٌ مِنْ هذا.قوله: {أَحْسَنَ الخالقين} فيه ثلاثةُ أوجهٍ. أحدها: أنه بدلٌ مِن الجلالة. الثاني: أنَّه نعتٌ للجلالة وهو أَوْلَى مِمَّا قبلَه؛ لأن البدلَ بالمشتقِ يَقِلُّ. الثالث: أن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: هو أحسنُ. والأصلُ عدمُ الإِضمارِ. وقد مَنَع أبو البقاء أن يكونَ وصفًا قال: لأنه نكرةٌ وإنْ أُضيف لمعرفةٍ؛ لأنَّ المضافَ إليه عِوضٌ مِنْ مِنْ وهكذا جميعُ أَفْعَل منك. قلت: وهذا بناءً منه على أحد القولين في أَفْعَلِ التفضيلِ إذا أُضيف: هل إضافتُه محضةٌ أم لا؟ والصحيحُ الأول.والخالقين أي: المقدِّرين كقولِ زهير: والمميِّزُ لأَفْعَل محذوفٌ لدلالةِ المضافِ إليه عليه أي: أحسن الخالقين خَلْقًا أي: المقدِّرين تقديرًا كقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} [الحج: 39] أي: في القِتال. حُذِف المأذونُ فيه لدلالةِ الصلةِ عليه.{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15)}.قوله: {بَعْدَ ذلك}: أي: بعدما ذُكِر، ولذلك أُفْرِد اسمُ الإِشارة. وقرأ العامَّة: {لَمَيِّتُون}. وزيد بن على وابن أبي عبلة وابن محيصن {لَمائِتون} والفرقُ بينهما: أنَّ الميِّتَ يدلُّ على الثبوت والاستقرار، والمائِت على الحدوثِ كضيِّق وضائق، وفرَِح وفارِح. فيُقال لِمَنْ سيموتُ: ميِّت ومائت، ولمن مات: مَيّت فقط دون مائت لاستقرارِ الصفةِ وثبوتِها وسيأتي مثلُه في الزمر إن شاء الله تعالى، فإن قيل: الموتُ لم يَخْتَلِفْ فيه اثنان، وكم مِنْ مخالفِ في البعثِ فلِمَ أَكَّد المُجْمَعَ عليه أبلغَ تأكيدٍ، وتُرك المختلَفُ فيه من تلك المبالغةِ في التأكيد؟ فالجواب: أنَّ البعثَ لمَّا تظاهَرَتْ أدلتُه وتضافَرَتْ أَبْرَزَ في صورةِ المُجْمَعِ عليه المستغني عن ذلك، وأنَّهم لَمَّا لم يعملوا للموتِ ولم يهتموا بأمورِه نُزِّلوا منزلةَ مَنْ يُنكره فأبرزهم في صورةِ المُنْكِرِ الذي استبعدوه كلَّ استبعادٍ.وكان الشيخُ، سُئِل عن ذلك. فأجاب بأنَّ اللامَ غالبًا تُخَلِّص المضارعَ للحال، ولا يمكنُ دخولُها في تُبْعثون لأنه مخلِّصٌ للاستقبال لعملِه في الظرف المستقبل. واعترض على نفسِه بقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} [النحل: 124] فإنَّ اللامَ دَخَلَتْ على المضارع العاملِ في ظرفٍ مستقبلٍ وهو يومُ القيامة. وأجاب بأنه خَرَجَ هذا بقوله: غالبًا أو بأنَّ العاملَ في يوم القيامة مقدرٌ، وفيه نظرٌ لا يَخْفى؛ إذ فيه تهيئةٌ العاملِ للعملِ وقَطْعُه عنه.و بعد ذلك متعلق بـ مَيِّتون ولا تَمْنَعُ لامُ الابتداء من ذلك. اهـ.
|